أخبار عاجلة
تأريخ ممتع لزمن سينمائي في “حكايات مُصوِّر”

تأريخ ممتع لزمن سينمائي في “حكايات مُصوِّر”

نقلنا لكم – بتجــرد: ثلاثية “حكايات مُصوِّر سينما” كتاب حكايات لطيفة؛ لكنْ من بين هذه الحكايات، ومن وحي الكتاب، أجد قضية تطرح نفسها بقوة على الوسط الثقافي العام، تتلخص في سؤال: ما مصير الميراث الشخصي الحياتي الاجتماعي للفاعلين في الوسط الثقافي؟! فهناك الكثير من رجالات الثقافة والفكر والفن والأدب، يمتلكون ميراثًا ضخمًا من الوثائق، والمستندات، والصور، والحياة التي عاشوها، والعلائق التي تعالقوا بها مع أهل الثقافة والفنّ تارةً، ومع غيرهم من شرائح المجتمع تارةً أخرى. إلامَ ستؤول هذه الميراثات جميعًا؟

هناك الكثير من الأناس الأشد فاعلية في حياتنا الثقافية -بفروعها-، يمتلكون الآلاف من الصور الهامة، والوثائق القيِّمة، والحكايات التي لم يستطيعوا روايتها وإدراجها في كتبهم، أو أفلامهم أو مقالاتهم. هل تضيع هذه المواد أدراج الرياح، كما ضاع غيرها سابقًا؛ أم هناك تصرُّف من الدولة أو المجتمع الثقافي نستطيع بالنقاش تحفيزه للتحقُّق؟ .. ليس كلُّ الناس أحمد شوقي أمير الشعراء، الذي امتلك قصرًا يطلُّ على نهر النيل مباشرةً، نستطيع أن نحول ملكيته نفسها إلى معرض لميراثه وحياته ورسائله وصوره الخاصة والعامة، مع الأدباء ورجال الدولة. فهذا أحمد شوقي صاحب القصر؛ فماذا عمَّن لم يمتلكوا قصورًا وملكيات نحولها لمعارض، هل يترك المجتمع الثقافي هذا المواريث تتفلَّت من بين يديه؟!.. لعلَّ النقاش يمتد -كما أرجو.

كتاب “حكايات مصور سينما” كتبه مدير التصوير الكبير سعيد شيمي، في ثلاثة أجزاء. وصدر تباعًا؛ الجزء الأول 2022، والجزآن الآخران 2023، عن دار الهالة للنشر والتوزيع. وعلى مدى سبعمائة وسبعين صفحةً من القطع المتوسط، يروي لنا أحدُ أهم مديري التصوير السينمائيين في العالم العربي حكاياته التي أردفها بعنوان فرعي “الغريب والخفي أثناء عمل الأفلام”.

والكتاب ينتمي إلى جنس المذكرات والترجمات الشخصية، لا إلى التأليف القصصي؛ فهو يضمُّ الحكايات الحقيقيَّة التي حدثت بالفعل للمؤلف أثناء عمله الطويل الممتد لأكثر من أربعين عامًا في مهنة التصوير السينمائي.

ولعلَّنا قبل الانتقال لمعالجة الكتاب، يعنُّ لنا سؤال عن جدوى هذه الحكايات، ما الفائدة من إصدار كُتُب يحكي فيها أحدُهم حكاياته؟..  هذا سؤال مشروع قد يرد على ذهن أي شخص يجد مثل هذه النوعية من الكُتُب في السوق. والإجابة تتلخص في ثلاثة جوانب: الأول هو مَن؟ مَن الذي يحكي لنا حكاياته؟ هل نقرأ أية حكايات -أقصد هنا ذكريات حقيقية- يرويها شخص ما؟! بالقطع لا. الأصل أن مثل هذه الكُتُب كي تكتسب قيمةً؛ يجب أن تكون صادرةً عن شخص بلغ منتهًى في مهنته وعمله، وتعدَّى تأثيرُهُ حيزَ نفسه إلى حيز الكثير الجمّ من أفراد المجتمع، أو حيز المهنة والعلم الذي به اشتغل؛ حتى نقبل منه هذا الصنف من التأليف.

ومؤلفنا هنا قد تعدى حتى هذا التصور السابق؛ فهو -إنْ لم يكن الأكبر- من أكبر مُديري التصوير في العالم العربي، وصانعي السينما العرب، وهو -فوق ذلك- مُدخِل أو مُنشئ الكثير من تقاليدها هنا في الوسط العربي، مثل التصوير في الشارع الحقيقي (أيْ في بيئة الأحداث الحقيقية، لا في البيئة المُحاكية التي تسمى استوديو)، ومنها أنه أدخل التصوير تحت الماء بعد أنْ لم يكن موجودًا عند العرب. وفي جانب آخر برز سعيد شيمي في دور المُنظِّر لفن التصوير السينمائي؛ حيث كتب خمسة وثلاثين كتابًا عن التصوير والسينما؛ تتوزع حول التنظير للتصوير السينمائي، وبحث تجارب المصورين السابقين عليه والمعاصرين له، والقسم الثالث عن السينما والتجربة البشرية. وآخر ما صدر من القسم الأخير هذه الثلاثية. والخلاصة أنه مكتسبلأحقيَّة الكتابة في هذا الصنف من الذكريات.

والجانب الثاني من الإجابة عن السؤال؛ تتعلق بأهمية التوثيق الشخصي في الخط العام الثقافي، وفي عملية التأريخ الثقافي -هنا التأريخ للفنون البصرية-. فهذه الذكريات والسِّيَر الشخصية -خاصةً المتعلقة أو المُختصة بالعمل لدى حاكيها- أحد مصادر كتابة التاريخ الخاص بكل حقل ثقافي. وكم من مرة فسَّرتْ هذه المذكرات الشخصية عُدُول فيلسوف أو أديب ما عن مذهب، أو اعتناقه آخر. ويُعتمد ساعتَها في التأريخ على المذكرات الشخصية، بل تدخل في حيز التدريس الرسمي في أوقات. المذكرات بكل ما فيها تحمل هموم أصحابها، وأحلامهم، وعلاقاتهم. وهذه العلائقية أو التعالُق بين أفراد المجتمعات الثقافية، يُكمِل خريطة الوسط الثقافي لكل عصر، فيسهل لنا رؤيته بوضوح، ويسهل علينا تصنيف اتجاهاته، وتبرير تحركاته.

الجانب الثالث هو المتعلق بفعل التلقي المباشر؛ من المتعة التي تكتنفها رُوح الحكاية، والعِبرة التي يجدها الإنسان في الذكريات وتجارب الآخرين، خاصةً تلك المكتوبة بعد طول تجربة.

ومن الجانب الأخير نجد الكثير في حكايات مصور سينما؛ وليس أدلَّ على ذلك من أن المؤلف سمَّى الكتاب “تجاعيد الزمن” كما صرَّح، لكن يبدو أن الوجهة التسويقية كانت الغالبة، فحولوا عنوانه إلى حكايات مصور سينما، ليجذب العين والرغبة في معرفة “أسرار” مهنة صناعة الأفلام. وقد حرص المؤلف على بث النَّفَس الإنساني في الحكايات باطراد. ونظر إلى كل ما جرى في حياته من وجهة نظره الحالية، أيْ بعد أن جاوز الثمانين من الأعوام. فكان يحكي الحكاية مُبرِّرًا إياها بالمُبرِّر الأول الذي دفعه للتصرف حينما كان شابًا، ثم يعود إلى نفسه الحالية ليُعلِّق على الحدث بعدما صار شيخًا.

ووقف وقفة المتأمل في حياته التي عاشها، وفي تجاربه التي خاضها، وفي الآخرين من أصدقاء العمل (مؤلفين، ومخرجين، وممثلين، حتى أصدقاء الحياة)؛ حيث عامل كل شخص منهم بكونه تجربة إنسانية؛ يعرض ما فيها، ويهتم بتبرير تصرفها، ثم يحكم عليها بهوادة حُكم الزمن الذي يقيده الآن. ولعلَّ هذا يثير فكرة عميقة في نفوسنا؛ حيث كلَّما كبرنا شعرنا أننا خلقٌ جديد، وصرنا نحكم على “الآخر”، لا “الأنا” الذي كُنَّاه وقتها.

وأبرز سمات الكتاب -بعد رُوح الزمن- هو الوطنية الجارفة التي يبديها المؤلف بين جنبات الكُتُب الثلاثة؛ فهو متعصب جدًا لوطنه الأصغر مصر، ولوطنه الأكبر العروبة. وقد حرص على إبراز اتجاهه السياسي (وهو عنده وطني لا سياسي)؛ “الناصريَّة” -نسبةً لجمال عبد الناصر-. وفي الكتاب نقد لاذع لسلوكيات كثيرة سلبية عند المصريين؛ فكم من مرة ينتهز الكاتب الفرصة ليعيب خُلُق التواكل، والاعتماد على المهارة المُدَّاعاة من دون تعويل على قواعد العمل والتزام الصحيح في التصرُّف (ما يُجمِّله بعضنا فيُسميه الفهلوة والشطارة)، وسوء الإدارة، والتخلي عن الروح الوطنية، والتفريط في مقام اللغة العربية الفصحى، وغيرها من السلوكيات الشائنة التي حرص المؤلف على إدانتها في كتابه؛ إمَّا تعليقًا على أحداث قديمة عاشها، وإمَّا بالاستدعاء المُباشر من الواقع الحاليّ إثر الواقع الذي كان يعيشه.

ومن أبرز ملامح الكتاب، نفحات الوفاء والصداقة المبثوثة فيه. صداقة مشوبة بعلاقة الأستاذيَّة والتلمذة، مثل علاقته بأستاذ التصوير الثابت (الفوتوغرافي) عبد الفتاح رياض، الذي تعلَّم على كُتُبه مبادئ التصوير، وربطتهما علاقة أستاذية حانية. وكذلك علاقته بالأستاذ أحمد الحضري، الناقد الذي رأس معهد السينما؛ أو علاقته بالمخرج المعروف شادي عبد السلام. أو صداقة بين ندَّين، مثل حديثه عن المخرجَيْن: محمد خان، وعلي عبد الخالق. لكن رُوح الوفاء العطرة فاحت من بين السطور في كل حكايات الصداقة، لتدلعلى أن حكايات الصداقة هي أصدق ما في الكتاب، جوارَ حكايات الوطنية.

ومن الملامح الأسلوبية في الكتاب غلبة أسلوب الحكي بالسرد المباشر، مع عدم استدعاء الحوار إلا نادرًا. مع استخدام مستوى من الفصحى يقترب من العامية، بل يكاد يمسها في كثير من الأحيان؛ مما يلائم أسلوب الحكي -في وجهة نظر واحدة-. وكذا ظهر الأسلوب المقالي أحيانًا، بل بين الحكايات حكاية اسمها “مصر قِبلة السينما العالمية” هي مقال بلا شك، لا علاقة لها بالحكاية، ولا بأسلوبها. وكذا حرص المؤلف على إكمال بنية الحكايات شديدة القِصَر في الجزأين الأخيرين؛ فقد تقوم الحكاية على طُرفة أو موقف قصير، فيكمل المؤلف بنية الحكاية بالحديث عن أطرافها، أو عن سياق الحكاية، أو عن العبرة منها.

ومن طريف الأسلوب في الكتاب، اختلاف نبرة المؤلف في وصف الأفلام الفنية والتِّجارية؛ فنلحظ حديثه عن فيلم “طائر على الطريق” (الفني)، الذي وصفه بأنه تجربة إنسانية تعالج موضوعًا اجتماعيًّا، وحديثه عن فيلم “الإمبراطورة” (التِّجاري)، الذي وصفه بـ”شُغل السينما”. وكذا تعبيره المُستاء عن عمليات التجميل -التي بدأت تنتشر ساعتها- بين المُمثلات، في حكاية فيلم “خلطبيطة”.

وأمرُّ الآن على الأجزاء الثلاثة، مُلمحًا على أهم ما فيها سريعًا.

الجزء الأول من حكايات مصور سينما

الجزء الأول هو أفضل الثلاثة، بل هو الذي ينطبق عليه وصف الكتاب، وهو الذي يُشابه غيره من كُتُب الذكريات التي يصنعها أقرانُ المؤلف. حكاياته مكتملة، لها وجهة وهدف، وأسلوبها أقوم، وموزعة بشكل متناسق. مع مقدمة جيدة أشار فيها لتراث ضخم يمتلكه من الصور والذكريات. وأشار كذلك أن الوباء العالمي مع ما فرضه من الحظر ولزوم البيت، كان دافعه الأول لكتابة هذا الكتاب. ولا أستطيع الانتقاء من هذا الجزء؛ فكل ما فيه جيد وأقرب إلى الرصانة، وله فائدة حقيقية في التوثيق للفترة السينمائية (فقط الحكاية المُسمَّاة “هجوم المجنونة” هي الوحيدة الخارجة عن حيز العمل فيه، وذكر فيها حادثًا شخصيًّا).

وأهم ما لفت نظري في الجزء، هو الفيلم القصير “الصندوق الأسود” الذي كتبه سعيد شيمي عام 1968م، وتعليقات المخرج محمد خان عليه. وبغض النظر عن أن وجهة نظر سعيد أدق وأعمق من حيث التأليف والمعاني، وبغض النظر عن بُرُوز المُخرج داخل محمد خان. لكنْ ما يسترعي الانتباه هو النضج الفني لدى كل منهما، وهما ساعتَها في مبادئ العشرينيات من العُمر. فسعيد أبدى نضوجًا معنويًّا وكأنه مؤلف حقيقيّ (خاصةً في بدء الفيلم من بيت المُصوِّر التي اختلافا عليها)، يربط بين المعنى والمُعادل الصوريّ له. وخان أبدى نضوجًا إخرجيًّا واضحًا في تكييفه للمكتوب، وتعديله له في شكل صوريّ أشد تأثيرًا في المُشاهد من وجهة نظره. ولعل في هذا فائدة للأجيال الجديدة؛ بأن فاقد المعنى لا يُصدِّره لغيره أبدًا.

الجزء الثاني من حكايات مصور سينما

وهو الثاني في الترتيب، وهو الثاني في الرتبة والقيمة. وبه الكثير من الحكايات المفيدة لأهل الصناعة، والممتعة للقراء. وأبرز ما فيه -من وجهة نظري- مقدمة الحكاية الثانية “البكاء أثناء التصوير”، وهنا أنقل ما كتبه المؤلف نصًّا: “نحن صُنَّاع الخيال، ونحن الذين نؤثر على المشاهدين، ونجعلهم يبكون ويضحكون، أو لا يتحركون من على كراسيهم في دُور العرض. نربطهم بحزام التشويق، أو الدهشة، أو الرعب. فهذه مهنة كل العاملين في صناعة الأفلام”. ويا لها من كلمات صادقة عن الفن السينمائي، وتأثيره على المشاهدين والشعوب، ويا لها من كلمات مُخيفة إنْ تأملناها!

وكذلك حكاية “فنان الشعب: صلاح أبو سيف”، فقد أورد فيها المؤلف مقاله عام 1968م، في مجلة “الغاضبين” الصادرة عن “جماعة السينما الجديدة”. ويبدو أنه تأثر باسم المجلة حينما كتب المقال ينتقد انتقادًا عنيفًا المُخرجين صلاح أبو سيف، وحسين حلمي المهندس. ويدل المقال على اطلاع المؤلف على الواقع السينمائي الغربي والعربي، وعلى وعيه بمعنوية استخدام الألوان في الفيلم السينمائي. مع متعة متابعة نقده المتهور وهو شاب في مبدأ حياته.

ولا أنسى حديثه الطويل عن الممثل أحمد زكي؛ الذي اختاروا صورته لغلاف هذا الجزء. فقد كان حديث إعجاب صادق، عن شخص يفصله عن المؤلف عدسة الكاميرا؛ فأحدهما خلفها، والآخر أمامها. وحديثه عن عبد الفتاح رياض، ومقال الأخير الجيد عن كتاب سعيد “التصوير السينمائي تحت الماء”.

ومن أطرف ما في الجزء حكاية “التصوير تقدَّم كده!”؛ حيث استخدم المؤلف أسلوبًا عربيًّا هو “الذمُّ بما يُشبِه المدح”، في وصفه المطرب والممثل والملحن والمخرج اللبناني محمد سلمان. والأسلوب -كما هو بائن من اسمه- يقوم على ذكر ظاهر للمدح، يحمل معنى باطنًا من الذم، ويُستخدم بدرجات من الوضوح والغيام. وقد استخدم المؤلف هذا الأسلوب في تعجبه من التطفل على المهنة، واستخدام النفوذ من الغير. مع عدم إجحاف للرجل.

الجزء الثالث من حكايات مصور سينما

وهو أقل الثلاثية، وأنصح بإعادة تحريره عند صدور الطبعة الثانية من الناشر أو المؤلف. ومن أبرز ما جاء فيه حكايته “رجل من زمن الأصالة” عن الناقد أحمد الحضري الذي ساعد جيلًا من السينمائيين، وأسس جمعية الفيلم ونادي السينما. وحكايته “فيلم متحف اللوفر الفرنسي” مع المخرج الفرنسي الذي أبدى استغباء من طرف خفي للمصريين والعرب، مُعتقدًا أن السينما مهنة الغربيين وحسب، وأنْ لا يد للعرب فيها. وحكاية “ذكرى فيلم كوفاديس” ونقل ذاكرة الشعب عن تأثير السينما “الأمريكاني” والدعاية التجارية.

وكذا حكاية “التصوير مع هنري بركات” التي عبرت عن جيلين واختلاف التفكير بينهما. ومن أجمل الحكايات “سينما كرنك الصيفي” التي نقل فيها المؤلف ذاكرة القاهرة عن دُور العرض السينمائية في الخمسينات. وحكاية “اليابان اشترتني” التي أرَّخ فيها لدخول الأفلام الخام اليابانية من شركة “فوجي”. وآخر الحكايات “مصور سينمائي من مصر” التي أنهى بها الكتاب، بكلمات صادقة من القلب عن مصر وحبها.

كتاب “حكايات مصور سينما” مليء بالممتع، والمفيد، والمضحك، والمُحرِّك لرُوح الحنين (النوستالجيا) لعقود سينمائية مضت؛ مع أمنيات بمستقبل مشرق. مع كثير من الصور التي دعَّمتْ الحكايات ووثقت الأحداث.

إلى الأعلى