أخبار عاجلة
البعد الإنساني والاجتماعي في “شارع الصحراء 143”

البعد الإنساني والاجتماعي في “شارع الصحراء 143”

متابعة بتجــرد: فيلم “شارع الصحراء 143″ لمخرجه الجزائري حسن فرحاني الذي أنتجه سنة 2019 وتصل مدته الزمنية ساعة و 29 دقيقة ” 1.29 دقيقة” هو فيلم وثائقي تخيلي بالألوان جرت وقائعه بمنطقة صحراوية أمازيغية بدولة الجزائر اسمها “تيميمون”. تمر بها طريق وطنية اسمها “طريق الوحدة” والتي تعرف رواجا صاخبا لتنقل السيارات والحافلات والشاحنات والقوافل العسكرية والمترجلين والرحل وتعيش المنطقة حالة من الفقر المدقع، وتعرف بقساوة الجو الصحراوي والمناخ المتقلب وزحف الرمال وضعف البنية التحتية والمرافق الضرورية الأساسية”الماء/الكهرباء/الغاز/التطبيب/إلخ”.

ويرصد الفيلم الوثائقي “شارع الصحراء 143″الذي أطلق عليه أيضا اسم “مملكة مليكة” كناية لما لقبتها بها السائحة البولونية “مايا” لحالة امرأة صحراوية اسمها مليكة ويقال لها الحاجة وهي متقدمة في السن تعيش العزلة والوحدة ابنتها الوحيدة التي كانت عندها تم قتلها، وتعمر المسنة الخشنة والبدوية ذو اللباس البلدي التقليدي المحتشم في الصحراء وبالضبط بالمنطقة المحاذية لطريق الوحدة الصحراوي.

حيث وبالرغم من كبر سنها مازالت تقاصي وتكابد أعباء الحياة وتجابد من أجل البقاء، والصمود رغم ظروف العيش الصعبة حيث تقوم ببيع المستلزمات الغذائية الضرورية من شاي، قهوة، ماء ودخان «التبغ/الشمة” بمقهى شعبية أو مطعم شعبي لا يحمل إسما وهي تشبه بيتا مهجورا محفوف بالمتلاشيات والمخاطر يعمل على شاكلة محطة أو باحة استراحة للمارة بالرغم من غياب تجهيزات عصرية من كراسي، طاولات، تلفاز ومكيف نظرا لغياب الكهرباء والطاقة، ويبقى المذياع هو المؤنس للبطلة لا سيما في الليل حيث تلتقط كل الاخبار والبرامج الإذاعية.

كما أن الفيلم يبرز دور امرأة صحراوية بدوية متأصلة تشتغل بعفوية وتلقائية دون تمظهر أو تصنع، أو معالات، وتكسب بالتالي قوت يومها الرغيد والزهيد بالحلال وعرق الجبين.

وكعادتها اليومية فإن بطلة الفيلم مليكة تنسج علاقات طيبة ومتينة مع زبنائها الوافدين والسائقين والمارين عليها سواء كانوا مواطنيين جزائريين محليين أو سياح أجانب، حيث تتواصل مع زبنائها باللغتين العربية والفرنسية والدارجة، حيث يتجاذبوا معها أطراف الحديث في كل الأمور والانشغالات الأساسية لا سيما الاجتماعية والسياسية منها.

ورغم صغر الفضاء الذي تشتغل فيه مليكة إلا أنه يشبه الزاوية، حيث ورغم قلة الرواج فيه لكن الفضاء الإسمنتي المبني بالطوب والمسقف بالقصدير أو الزنك مخصص لبيع المنتجات الغذائيةتقام فيه الانشطة الترويحية والموسيقي والرقص، وتصلى فيه الصلاة ويجتمع فيه المسافرون والمارة وبجانبه تواجد شجرة خضراء مغروسة أمام المقهى ترمز للحياة والعطاء والخير.

وتقام عند مليكة بين الفينة والأخرى جلسات للاستماع والرقص والموسيقى، وتظهر مليكة ترقص مع الشباب والرجال بكل جرأة وعفوية.

البعد الاجتماعي في الفيلم:

ويتجلى بعد الجانب الاجتماعي والسياسي في الفيلم الوثائقي “شارع الصحراء 143” من خلال ذكر الثورة وتبيان الفقر والأزمة التي تتناقض مع ما جيئ في الخطب السياسية لقيادات عسكرية جزائرية ورئاسية منها “خطاب الهواري بومدين” المذاع في الأجهزة السمعية والبصرية والمذياعوالداعي إلى الانعتاق والحرية ويجبر الشباب على التحلي بالنضال والصمود لتحقيق التقدم والازدهار والذي يتناقض مع الواقع الجزائري.

ناهيك عن ذكر البطلة وأحد المارة لغياب الحراسة والمراقبة والأمن في المنطقة المذكورة نطرا لطول المساحة الصحراوية وشساعتها وهنا يشكل مصدر تخوف المارة والسياح.

قص على ذلك تواجد نقص في محطات الوقود على طول الطريق حسب شهادات أحد المارة للبطلة وبالرغم أن دولة الجزائر هي من الدول الأولى في تكرير الغاز والبترول وتعاني داخليا من النقص المهول من إنشاء وتزويد مناطقها وطرقها بمحطات الوقود.

وفي مشهد أخر تحاول مليكة من جانبها احتواء مشاكلها الخاصة المتمثلة أساسا في محاولة إرغامها على الخروج من بيتها ويبرزذلك جليا من خلال اتصالاتها المتكررة مع أحد أقاربها دون تحديده.

البعد السياسي للفيلم يكمن في الحديث عن خليجيين وقطريين بالضبط يحجون للمنطقة باستمرار ويستغلونها استغلالا فاحشا وذلك بقنص الغزلان والطرائد مما يشكل إضرار للبيئة.

كما يبرز الفيلم المعاناة والتعب والمقاومة والتشبث بالبركة بالرغم من المنافسة الشرسة التي أصبحت تحس بها من قبل وافدين جدد من منطقة “القبايل” والذين أنشأوا محطة جديدة للوقود بجانبها تحتوي على مطعم ومقهى ومسجد للصلاة وباحة كبرى للاستراحة.

ويظهر لنا البعد الاجتماعي أيضا في الفيلم من خلال تأثر البطلة مليكة وهي تحكي لأحد المارة بحرقة عن ما وقع من حوادث السير المميتة لراكبين في حافلات الركاب في الطريق الوطنية “طريق الموت” والذي يرجع مرده للسرعة المفرطة في السير.

كما يبرز الجانب الاجتماعي للبطلة في الفيلم من خلال الطيبة والمعاملة الحسنة المرفوقة بالبشاشة والضحك والترحيب والعفوية بجميع المارة كيما كانت جنسيتهم ووضعيتهم الاعتبارية والاجتماعية.

وتظهر لنا طيبتها أيضا حتى مع الحيوانات الأليفة كالكلاب “ديانا” نيسو” والقطة “ميمي” والذين عوضوا لها الانعزال والوحدة التي كانت تحس بها وكانت تنادي قطتها “ميمي” بابنتها.

ويظهر البعد الاجتماعي أيضا في الكشف والبحث أيضاعلى أحد المفقودين وابراز صورهم.تم أيضا ذكر مواضيع تهم(عيد المرأة/ حقوق النساء–الزواج/ المنافقين حسب قولها الإمام وصديقه /الحجاج والمعتمرين/ معاناة السجناء / الحرية).

ويظهر البعد الاجتماعي في مساءلة الزوار والمارة عن أحوالهم وأحوال أسرهم بما في ذلك الأجانب حيث سألت البطلة مليكة السائحة البولونية “مايا” عن والدها وأمها ورؤية صورهم بهاتف السائحة الذكي والذي لا يشبه تماما الهاتف البسيط لمليكة الذي تستخدمه كوسيلة للتواصل مع العالم الخارجي.

يظهر البعد الاجتماعي في الثناء الذي أثنته البطلة لأحد المارة في حسن العناية والمعاملة التي قامت بها أخته اتجاهها حينما كانت مليكة مريضة في المستشفى من رجليها والتي فاقت عناية الأخت بأختها وهذا تجسيد لثقافة الاعتراف التي رسخها ديننا الإسلامي “من لا يشكر الناس لا يشكر الله”، حيث ظهر للعيان انتفاخ رجل مليكة التي تعاني في صمت حينما كانت مستلقية على بطنها في الرمل وتحت أشعة الشمس الحارقة والملتهبة.

ومن جانب أخر أو زاوية أخرى يظهر لنا الفيلم أن البطلة تقوم بخدمة وطنها على اعتبار كون أنها هي الحارسة والمراقبة والشاهدة على عصرها حيث تنقل الأخبار “حوادث السير وتحصي الموتى كذلك” فهي تقوم بدور المخبر الاجتماعي كما صح القول.

وتستخدم خصلة “الغيب” تارة أخرى لا سيما عند مغادرة زوارها وهو ما يظهر جليا وبوضوح عند مغادرة الإمام ورفيقه واتهامهم بالرغم من كون أنهم حاجين أو معتمرين ولكنهم منافقين ربما لكون أنهم أكثروا عليها الأسئلة دون اقتناء أي شيء يذكر من عندها.ويظهر أيضا ذلك جليا من خلال تشكيكها بالزائر الذي يبحث عن أخيه المفقود على أنه غير صادق في كلامه.

الجانب التقني والجمالي في الفيلم:

الملاحظ في الجانب التقني أن الفلم لا يتوفر على ملصق سينمائي بارز وأحداث الفلم تدورفي فضاء مغلق “مكان المقهى” والمفتوح ونقصد هنا الصحراء الجزائرية الشاسعة.

والملاحظ أن نفس الموسيقى المستعملة بداية الفيلم هي ذاتها التي انتهى بها الفيلم ويظهر لنا توالي الأحداث بتغيير الملابس للبطلة بين الفينة والأخرى.

حينما يكون الزمن يكون الحكي وخلال العكس يكون الوصف،  تم أن زمن الفيلم طويل حبذا لو تشدد المخرج مع المونتاج من أجل حذف بعض الدقائق لمشاهد متكررة واكتسابها حتى لا يعم الملل وبالتالي إزالة الوقت الميت في الفيلم.

جل الوافدين على المكان تم تصويرهم بالداخل وعدم التركيز على كيفية قدومهم عكس السائحة البولونية مايا التي أعار لها المصور الاهتمام وركز عليها طويلا سواء عند قدومها للمحل أو خلال نقاشها مع البطلة وحتى أثناء مغادرتها الفضاء.

تم أنه كان يستحسن إزالة بعض اللقطات من الفلم والتي تظهر فيها البطلة أنها تقوم بحك جلدها بأظافرها “إلا إذا كان الغرض من ذلك أن يوصل لنا فكرة كترة الأوساخ وقلة الاستحمام وفي لقطة ثانية أن البطلة تقوم بوضع يدها على فمها وتتتاوب إلا إذا كان الغرض من ذلك أن يوصل لنا فكرة التعب الشديد وقلة النوم.

 ناهيك على أن بداية ونهاية الفيلم عرفت إيقاعا بطيئا ونهاية مفتوحة مع الاعتماد على الإضاءة الشمسية بدل الإضاءة الطاقية طيلة تصوير الفيلم. ولعل الإضاءة الطبيعية في النهارأثرت على التصوير حيث كثرة البياض، والاعتماد ليلا على الفانوس “لامبة” وضوء القمر.

تم أن التصوير في حد ذاته كان يظهر عادي وهاوي وغير محترف لا تستعمل فيه تقنيات ويستعمل خلاله كاميرا ثابتة غير متحركة إلا في مشاهد نادرة مع تكرار نفس الإطار في المقاطع والمشاهد الأساسية لموضوع الفيلم، حيث أنه استغل نوافد المبنى بالرغم من ضيقها كوسيلة لتأطير تصوير الفيلم.

تظهر بطلة الفيلم تتحدث مع نفسها تارة ومع المصور أو المخرج تارة أخرى، كما أن المصور يدخل في حوارات متكررة ويعمل على إعطاء معلومات أو تصويبها.

أما الصوت فكان عادي لا يعتمد على تقنيات متطورة أو مؤثرات أو هندسة صوتية أو أي شيء من هذا القبيل، وأهم لقطة سمع فيها الصوت بشكل جميل هي لحظة تصوير الفضاء الخارجي يعرف هبوب رياح قوية صاحبها زحف الرمال محدثا بالتالي لصوت جميل. وتواجد شخصيات واقعية غير موجهة أو مؤطرة مسبقامن طرف المخرج وبدون سيناريو مكتوب سلفا وبدون ديكور.

وأخيرا وليس بأخير فإن المتتبع لاحظقبل نهاية الفيلم غناء البطلة على المنفيين والمغتربين تلاها مشهد غروب الشمس واشتعال الإضاءة بمحطة البنزين الجديدة ليلا في نهاية الفيلم والتي توحي لا محالة بانتهاء العمل بالمقهى الشعبية ونهاية عمل مليكةوغروب مملكتها ونفييها وهذا ما جعلها تشتكي في النهاية من الملل وقساوة الحياة بالرغم من ارتباطها اللصيق بالأرض.

يبقى أن الفيلم كشف النقاب عفويا عن العديد من المواضيع والانشغالات والهواجس التي تأرق بال الشعب الجزائري (الديمقراطية/الحرية/المساواة/العدل/الشغل/التربيةعلى القيم والمواطنة) وينصح تتبع الفيلم مرات عديدة للوقوف على الدلالات الرمزية والرسائل العفوية المشفرة وحل طلاسيمها وألغازها الفنية والجمالية.

إلى الأعلى