أخبار عاجلة
من بوابة بصرية.. Avatar: The Way of Water يشق طريقه للمجد

من بوابة بصرية.. Avatar: The Way of Water يشق طريقه للمجد

متابعة بتجــرد: يعود فيلم “Avatar: The Way of Water” (أفاتار طريق المياه)، ليقدم لنا ملحمة أخرى مكملة للأولى التي صدرت عام 2009، والتي حازت نجاحًا فائقًا. ورغم أنه في الأسبوع السادس في دور العرض، بعد محنة كبيرة حجبت دور العرض عن الرواج؛ إلا أنه استطاع تجاوز مليارَيْ دولار في الإيرادات.

بدءًا؛ فإن تجربة المشاهدة في السينما لهذا الفيلم تضيف إلى إبداع التلقي، والإحساس الجمالي بلوغًا للنشوة؛ خاصةً في دور عرض مُصممة على تهيئة (IMAX) (شاشة أضخم من شاشات دور العرض العادية، مربعة ومنحنية، وإسقاط مضاعف للصورة على الشاشة، وإمكانات صوت معززة؛ مما يمنح تجربة شعور بالمعروض تخالج وجدان المشاهدين)، التي تعزز التجربة في إبراز جماليات الفيلم ثلاثيّ الأبعاد؛ وهي الخاصية التي تعطيه لمسة طازجة، حقيقية؛ خلاف رؤيته في تجربة لا تنقل إلا بُعدين، كفيلة أن تُظهر الفيلم في صورة كرتونية، وكأنه فيلم تحريك.

باهرةٌ هي حيواناتُ كوكب باندورا وهي تقترب منك حتى تلامس جسدك، حانيةٌ تلك المخلوقاتُ البحرية التي تمر أمام عينيك، خطيرةٌ تلك المطاردةُ من حيتان التولكون وهي تسارع حتى تشعر أنها ستسحق مقعد السينما الذي يستقر عليه جسدك. يا له من زمن خطر ذلك الزمن الذي نشهد فيه عالَمًا مُركَّبًا حاسوبيًّا، لا شيء فيه موجود؛ قادرًا على التأثير بنا أشد التأثير! وهذه هي الفكرة التي استقرت في خاطري من مشاهدة الفيلم، رابطًا إياها بتقنيات “الخداع العميق” التي تتقدم كل يوم، لتُريك شخصًا وهو يقول كلامًا لم يقله، ويفعل أفعالًا لم يفعلها، وتريك عالمًا ضخمًا ثريًّا لا شيء منه قائم، ثم تذهلك أن أصل ما رأيت مجموعة ممثلين يرتدون محسَّات ولواقط حركة، يتحركون في حمام للسباحة! حتى يلحّ علينا سؤال في عالم اليوم: أين هي الحقيقة من كل الزيف المرتب المُنمَّق الذي نراه أمامنا حقيقة؟!

يكمل المخرج المخضرم جيمس كاميرون أحداث أفاتار السابقة، التي انتهت بإجلاء الأرضيين عن كوكب باندورا المأهول بالنافي، واستيلاء الأخيرين عليه، جوار بعض الأرضيين صديقي النافي، مع قيادة جيك سالي الأرضي الذي انتقل إلى صورته الأفاتار في آخر الفيلم الأول، وصار زعيمًا لنافي الغابة “أوماتيكايا”. وقد نعِمَ النافي وعاشوا سنوات من السلام، أنجب فيها جيك ثلاثة من الأبناء، وتبنى كيرا ابنة الباحثة في الفيلم الأصلي (مع بعض الغيام في هذه القصة ودوافعها، ويبدو أنهم أرادوا فقط استبقاء شخصية الباحثة).

يؤرق هذا السلام عودة الأرضيين إلى كوكب باندورا. وهذه المرة عادوا بكل شراسة وقسوة، بآلات جديدة متقدمة، وأناسيّ آليين أشد تطورًا وفتكًا. وفي عام واحد بنوا ما لم يبنِه السابقون في سنين عديدة. وقاوم النافي بقيادة جيك هذا الغزو الذي يحرق غاباتهم ويؤسس واقعًا جديدًا فوق واقعهم الذي يريدون هدمه. وأعلنت القائدة الأرضية أن هدفهم هذه المرة لن يكون استخراج مادة تقبع تحت شجرة الأرواح -كما في المرة الأولى-؛ بل الهدف هذه المرة هو استيطان هذا الكوكب، لأن كوكب الأرض يحتضر.

وهنا الفكرة الثانية التي قد تؤرق المشاهد؛ فرغم أن الفيلم يدور في زمن يبعدنا بقرن -على الأقل- إلا أن الفكرة التي يُدندن عليها منذ مدة بعيدة صارت مرتكز العديد من الأفلام. ومن يتابع الأفلام الأمريكية يعرف أن أفكارهم التي تتخذ شكل أطروحة مركزية لا تكون مجرد خيال؛ فما يتخذ هذا الشكل نجده بعدها واقعًا مشهودًا. وها هم منذ مدة ليست بالقليلة يذيعون فكرة خراب الأرض، والانتقال إلى أرض جديدة، سينتقل لها النخب العالمية فقط، تاركين وراءهم البقية يواجهون الفناء. رأينا هذا مؤخرًا في فيلم كبير “لا تنظر إلى السماء”، وفي هذا الفيلم.

وبغض النظر عن أن الفكرة تحمل سمات الضمير الغربي في بلورته لرؤية الأنقياء والبرابرة، فإن هذا البُعد يعدُّ تطورًا عن الفيلم الأصلي. فمجيء الأرضيين إلى باندورا عامل مشترك بين الفيلمين؛ إلا أنه كان مُشكِّلًا لحبكة الفيلم الأول، وإطارًا من أُطُره الأساس، وفي فيلمنا هنا اكتفى بكونه شرارة البدء وحسب. وهذا شكَّل أكبر عيب من عيوب الفيلم؛ فرغم ما صرَّح به الفيلم من أن الكوكب كله صار هدفًا للغزو الأرضي، مما يُصعِّد الصراع إلى أقصى نطاق له؛ إلا أن الفيلم سرعان ما انسحب من هذه الآمال الدرامية العريضة، مُكتفيًا بالصراع حول جيك سولي نفسه!

وهذا التقزُّم الدرامي لا يقع تحت حيز التبرير الدرامي من صانع الفيلم؛ إلا من جانب واحد أن جيك هو قائد التمرد على يبديه النافي تجاه الأرضيين. وهذا المبرر لا ينشئ هذا الواقع الدرامي الذي حشا به كاميرون ثلاث ساعات وأكثر. فهو محض تبرير واهٍ مُتداعٍ لتحويل الصراع الدرامي من الصراع الكوني المصيري (الصراع على كوكب باندورا)، أو الصراع على مقدس (الصراع على شجرة الأرواح في الفيلم الأصلي)؛ إلى صراع مُشخصَن يدور حول شخص جيك سولي، غرضه التخلص منه. وكأن الخلاص من جيك سيحل الغرض (استيطان الكوكب من قبل الأرضيين).

هذه الانحناءة العظيمة في قصة الفيلم غيَّرت الكثير. ومن غريب الأمر أن جيك هرب من نافي الغابة، مُخلِفًا وراءه قائدًا آخر ذا بأس (هو نفسه من صرَّح بذلك). أيْ أن الصراع لم يتغير في شيء؛ فما زال النافي يقاومون الأرضيين، بل صار لهم قائد شاب يريد أن يثبت نفسه. إلا أن الفيلم اختار الانسحاب من هذا الصراع المحتدم بإمكاناته الدرامية الضخمة، إلى صراع شخصي في الخلاص من جيك نفسه. وهذا التطور يُبدي هذا الفيلم في صورة القنطرة وحسب إلى الأجزاء التالية منه؛ حسبما صرَّح كاميرون أنه يريد صناعة أجزاء ثلاثة من الفيلم قادمًا.

ولمزيد تمحور الدراما حول جيك سولي تم استدعاء شخصية العقيد؛ الذي كان قد قضى نحبه في آخر الفيلم الأصلي، عن طريق استنساخه في صورة أفاتار يحمل ذاكرته وعواطفه، وإمكاناته، وأفكاره. وهذا عنصر ضروري من التقزُّم الدراميّ الذي نحا إليه هذا الجزء؛ فالعقيد يحمل ما يُثري الدراما الجديدة الشخصية، فقد منح الفرصة للمجند جيك في الفيلم الأصلي وخانه -على حد تعبير الشخصية في هذا الجزء-، وكذلك هناك ثأر شخصي بينه وبين سولي وعائلته، فهم المسئولون عن قتله في صورته البشرية. لذلك كان استدعاؤه بكامل ذاكرته ومشاعره مثريًا للدراما في الفيلم؛ بامتلاكه هذه العداوة الشخصية لا العداوة العامة وحسب. وأكمل كاميرون بناء الشخصية بغرابة عن طريق ربطه بابن بشري تركه سابقًا على الكوكب قبل موته في الجزء الأول، اسمه سبايدر، لم يغادر مع الأرضيين للعجز في إدخاله في حال السبات وهو طفل رضيع. لذلك بقي مع النافي، وتربى بين عائلة سولي.

ومن التقزُّم الدرامي أيضًا التقزُّم في قيم الفيلم، والهبوط أدنى إلى حيِّز العائلة، والحفاظ عليها والدفاع عنها. وقد مُحوِر الفيلم حول قيمة العائلة، وقيمة رابطة الدم، وهل العائلة تتكون بالميلاد وحسب، أم بالتربية والنشوء والمعيشة؟ نرى هذا منذ تفضيل جيك الهروب بعائلته من الصراع الكوني الكبير بين النافي والأرضيين، وتكراره أن العائلة تعني الحماية، والأبوة محورها حماية العائلة، وكذلك نراه في علاقة الشاب الأرضي سبايدر الذي ولد وتربى بين عائلة سولي، أيْ بين عائلة عدو أبيه الأصلي، ونظرة كل فرد له، ثم علاقته بأبيه العقيد بعدما تحول إلى صورة الأفاتار. ثم تتمظهر هذه القيم في علاقة نافي الغابة بنافي البحر الذين لجأ إليهم جيك سولي هروبًا.

ومن أفكار هذا الجزء أيضًا، استمرار الصراع بين التأويلين العلمي والديني؛ عندما أصيبت الطفلة “كيري” بما يشبه الصرع أثناء اتصالها بشجرة الأرواح عند نافي البحر. وكذلك التعامل مع الطبيعة في الرؤية الأمريكية الرأسمالية، وكذلك طمأنة الأمريكيين العالَمَ أنهم بعد أكثر من قرن، سيظلون يحافظون على تقنيات الاستجواب المعزز (أساليب تعذيب أمريكية لاستجواب المتهمين) الذي ظهر باستجوابهم الشاب سبايدر.

ومن أظهر تغييرات هذا الجزء -كما حدث في مستويات الصراع الدرامي، والفكرة والقيم- استغناؤه عن عالم الغابة، وخروجه إلى عالم البحار والمحيطات، وتلك القدرة على صناعة عوالم سحرية باهرة، قادرة على أن تأسر المشاهد، وتزيد من حافز المتعة البصرية، من خلال خلق محاكاة بتغييرات ملائمة لمخلوقات العالم البحري الأرضي.

في هذا الجانب نرى تصور كاميرون لنافي البحر؛ فقد غيَّر لونهم من الأزرق (لون نافي الغابة في الفيلم الأصلي) إلى درجة من درجات الأخضر، مع تغيير ملائم في البنية الجسمية، في الذراعين والذيل، لتلائم السباحة والغوص، لا التنقل بين الأشجار. وشكل الجُزر على كوكب باندورا التي تشبه جزر البهاما الأرضية مع تغييرات لونية، وتصوره لخيام النافي على الشاطئ. وتشكيل مخلوقات هذه العالم البحري السابحة لا الطائرة -كما في نافي الغابة-، وكذلك محاكاة الأرضيين الصائدين للتولكون بصناعة آليات للصيد تشبه مخلوقات البحار.

هذا التشكيل العالمي أفاد هذا الجزء أشد الإفادة؛ بل اعتمد عليه كاميرون كل الاعتماد. فرأينا مشاهد طويلة (ما يقرب من خمسين دقيقة) يصور فيها اعتياد عائلة سولي على عالم البحار، وهذا فقط مجرد تبرير درامي يُمرر كاميرون من خلاله تصويره للعالم الذي حاكى به عالم البحار الأرضي. كما رأينا تفاصيل صيد التولكون (حيتان ضخمة كحيتان الأرض، لكن بتغيير في الشكل والتصميم) وكأننا في فيلم وثائقي لا درامي. بل يستطيع الماهر صناعة فيلم وثائقي عن عالم البحار المتخيل اقتصاصًا من شريط هذا الجزء. وقد صنع كاميرون قصصًا فرعية تساعد على تمرير هذا الفيلم الداخلي عن عالم البحار، لعلّ أهمها قصة صداقة أحد أبناء سولي مع تولكون منبوذ.

لقد راهن كاميرون في فيلم “أفاتار طريق المياه” على المتعة البصرية، وقدرتها على تعويض هذا الانخفاض الضخم في مستويات الدراما في الفيلم. ويبدو أنه رهان رابح؛ فقد خلق كاميرون متعة بصرية سلبت المشاهدين من حولي تركيزهم في الصراع الدرامي. ليستطيع جيمس كاميرون أن يصنع أفاتار جديدًا من خلال ملحمة بصرية لا درامية.

إلى الأعلى