أخبار عاجلة
“سفاح الجيزة”.. دراما محلية بلمسات أميركية

“سفاح الجيزة”.. دراما محلية بلمسات أميركية

متابعة بتجــرد: مدخلان إلى مسلسل “سفاح الجيزة” يُكملان الصورة التي انطبعت في ذهن المشاهدين عنه، بعد أن انتهت حلقاته عىل منصة “شاهد”.

 المدخل الأول هو المسلسل نفسه كدراما فنية خيالية تنتمي لنوع فني وقالب مألوف لدى المشاهد، والمعروف باسم “Serial Killer”، أي “السفاح” أو كما يترجم عادة بشكل حرفي “القاتل المتسلسل”، وهو نوع وقالب مستمد بشكل أساسي من السينما والدراما التليفزيونية الأميركيين.

المدخل الثاني هو أن العمل “مستوحى من أحداث حقيقية”، كما تشير عناوين المسلسل ومصادر دعايته، وبالتحديد قصة المتهم “قذافي فراج عبد العاطي”، المعروف بـ”سفاح الجيزة”، والمودع بمستشفى الأمراض العقلية حالياً، انتظاراً لقرار محكمة النقض النهائي بشأن تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة ضده.

هل نتعامل مع العمل باعتباره خيالاً محضاً، مسلسل، ضمن عشرات المسلسلات التي تنتمي للنوع والقالب نفسه؟ 

من هذه الناحية هو عمل جيد، بل واحد من أفضل المسلسلات صنعاً في الآونة الأخيرة: مخرج متمكن لديه قدرة ملحوظة على إدارة ممثليه، وعلى صنع الجو أو “المزاج” العام، من خلال توظيف العناصر الفنية المختلفة من تصوير وإضاءة وموسيقى ومشاهد صادمة أحياناً، لخلق تأثير مقبض ومغوي بشكل غريب.

مكمن الانقباض واضح، وهو حياة وأفعال هذا القاتل “بدم بارد”، كما يقول العنوان الفرعي للمسلسل، ولكن مكمن الغواية هو الغامض، ولست متأكداً إذا ما كان مقصوداً أم لا، وهو أن معظم الشخصيات تتمتع بكاريزما وجاذبية حسّية مريبة. 

أحمد فهمي في دور السفاح يحمل على ظهره أدواره الكوميدية التي صنعت شعبيته، ورغم أنه يظهر بشكل مختلف هنا، لكن المشاهد يعلم أنه النجم أحمد فهمي. 

الممثلات اللاتي يلعبن شخصيات الضحايا جذابات بالمجمل، وبشكل خاص، الضحية الأولى التي يراها المشاهد وهي تُقتل، نجلاء (جيهان الشماشرجي)، والضحية الأطول بقاء على الشاشة، زينة (ركين سعد) التي لا تقتل، ولكن تحتجز وتقيد ويوحي العمل بأن السفاح يعاشرها أيضاً والتي تظهر في مشاهد، حقيقية، أو متخيلة في ذهن السفاح، جميلة وأنيقة ومثيرة.

داليا شوقي التي تلعب دور إحدى زوجاته هي أيضاً تتمتع بقدر من الجمال والجاذبية يختفيان تحت الملابس والصوت واللهجة ولغة الجسد الشعبية، ولست أعلم سر الهجوم الزائد عليها، فهناك بالفعل فتيات شعبيات كثيرات يتحدثن ويتحركن مثلها.

وينطبق الحديث السابق بدرجات أيضاً على بقية الضحايا، ولكن الجاذبية لا تقتصر على الشكل الخارجي، وإنما تكمن في الأداء التمثيلي الجيد لمعظم الممثلين والممثلات. 

حنان يوسف التي تلعب دور “أم السفاح” ليست شابة وليست جذابة، بل سيدة مسنة مريضة عنيفة قتلت زوجها في شبابها بوحشية، تعيش في شقة مظلمة قبيحة، ومع ذلك فهي تضيء الشاشة بحضورها وأدائها كلما ظهرت. 

باسم سمرة، ممثل قدير يطور أدواته باستمرار، ورغم أن الدور الذي يؤديه (ضابط المباحث الذي يتتبع السفاح) نمطي، لكنه يكسيه بالحيوية والجاذبية أيضاً.

فمن النادر مشاهدة عمل عربي تحب كل الممثلين فيه، وأعتقد أن هذا يعود إلى المخرج هادي الباجوري، الذي يُعد، كما ذكرت، واحداً من المتميزين في اختيار وتوجيه الممثلين.

لا يتعامل هادي الباجوري مع القصة من الخارج، ولكنه يحاول التسلل إلى المناطق المظلمة في نفوس شخصياته (وليس السفاح فقط)، وهو لا يتعامل مع الأحداث بالشوكة والسكين، ولكنه ينزل إلى أرض الواقع ويشمر قميصه، ويأكل مع “السفاح”، ثم يذهب معه لدفن جثث ضحاياه.

الباجوري مخرج جيد، ربما ظلمت موهبته بعض الاختيارات التي لا تحمل طموحاً فنيا كافياً لإظهار موهبته، ولعل “سفاح الجيزة”، رغم نوعه الشعبي التقليدي، هو أول عمل يتيح له إبراز قدراته على صنع التأثير والإمساك بالإيقاع. 

لقد استطاع الباجوري من قبل، حتى في عمل ممتلئ بالثرثرة مثل فيلم “الضيف” (إنتاج 2019)، أن يصنع إيقاعاً مشوقاً من نص كان يمكن لمخرج آخر أن يجعله مملاً. 

ولأن “سفاح الجيزة” نص مثير وسريع ومُحمّل بشعور واحد مسيطر هو الخوف والقلق، فقد وجد فيه الباجوري ضالته كمخرج. 

والحقيقة أن براعته تظهر في استخدامه للعناصر الفنية بطريقة غير تقليدية بالمرة، فالموسيقى التصويرية التي وضعها كريم جابر الشهير بـ”الوايلي”، والأغنية الختامية “عتمة” للمغنية سمر طارق من إبداعات شباب الموسيقيين المستقلين.

كما أن الموال الشعبي “العدل فوق الجميع” للمغنية بدرية السيد من الأعمال الشعبية الشهيرة وسط محبي هذا النوع، والثلاثة لا يشبهون موسيقى أعمال الرعب التقليدية، ولكنهم موظفون هنا بحدس وإحساس مخرج واع.

وعلى الرغم من أن نص السيناريو، يتميز كما أشرت، بالإيجاز والإيقاع السريع والشخصيات المثيرة والمواقف والحوار الجيدين، إلّا أنه يعاني من مرض “الاقتباس” المزمن الذي يصيب معظم ما ينتج هذه الأيام.

ورغم أن القصة واقعية، والمسلسل يلح على انتسابه للواقع، لكنه يمتلئ بالمبالغات “الهوليوودية الخزعبلية”، مثل مشاهد المطاردات وهرب المجرم على آخر لحظة بعد أن يختطف طفلاً حتى لا يطلق رجل الشرطة النار عليه، حتى قيامه باختطاف ابن ضابط المباحث لابتزازه.

من المقبول أن يقول صناع العمل إنهم “استلهموا” الواقع، ولم يلتزموا به، لا أحد يطالبهم بالالتزام بالوقائع، ولكن بالواقعية، وبالأصالة في التأليف بدلاً من الاستلهام من أفلام ومسلسلات أخرى.

والحديث السابق، يجرنا إلى المدخل الثاني للفيلم: كيف قام صناع العمل بتحويل القصة التي تداولت وقائعها وسائل الإعلام بالتفصيل، وصارت “أسطورة حضرية” Urban Legend من أساطير الرعب والجريمة المصرية، تذكر بالقاتل محمود أمين سليمان الذي كتب عنه نجيب محفوظ رواية “اللص والكلاب”، وريا وسكينة اللتين تحولت قصتهما إلى فيلم ومسرحية ومسلسل.

من الطبيعي أن يقوم كتاب الروايات والسيناريوهات بمعالجة الواقع ليناسب الدراما في تكثيفها للزمن والوقائع وربطها للأحداث بمنطقية ورسمها للأشخاص بوضوح وتباين، وهي أشياء يفتقدها الواقع غالباً، ويصبو إليها الجمهور في الدراما.

ولكن الطريقة التي تتم بها معالجة هذا الواقع هي التي تكشف رؤية صناع العمل لهذا الواقع ورؤيتهم للفن أيضاً.

وكأن الواقع ليس مرعباً بالقدر الكافي، فقام صناع المسلسل بزيادة عدد الضحايا، ولكنهم استبقوا شقيقة الزوجة التي كانت في الحقيقة أول ضحايا سفاح الجيزة، حتى يكون لديهم بطلة تنجو في النهاية. 

بالنسبة لزيادة عدد الضحايا، فإن الأمر مقبول طالما أنه مقنع درامي، ولكن الحقيقة بعض الجرائم غير مقنعة، مثل قتل عمته التي ربته بسبب شجارها مع أمه، وقتل فتاة المصنع التي حاولت ابتزازه، ثم ذهبت إليه طوعاً ليقتلها بمنتهى السهولة، وكذلك قتل جارة أمه (ريم حجاب) لأنها طالبته بمبلغ صغير، ما اضطره أيضاً إلى قتل سائق التوكتوك الذي كان في انتظارها. 

في مقابل هذه الوحشية المتجاوزة للواقع، هناك أيضاً معالجة “درامية” Dramatization لخلفية السفاح الاجتماعية، بحيث يصبح ضحية أمه التي قتلت أباه بوحشية مماثلة أمام عينيه والتي كانت تضربه وتعذبه بحبسه، ويعيد المسلسل ويزيد في هذه المشاهد بالحركة البطيئة وبكل السبل الممكنة لسبب غير مفهوم بالفعل بالنسبة لي. 

هل خلق التعاطف مع السفاح؟، هل تحذير المشاهدين من أن قتل الأزواج وتعنيف الأبناء يمكن أن ينتج سفاحين؟، هل إيجاد مبرر درامي لما يفعله السفاح؟، علماً بأن العمل يشير بالقرب من نهايته إلى أنه ربما يكون مصاباً بمرض عقلي يجعله مغيباً عن الواقع، وأنه ربما يكون قد قتل ضحاياه، دون أن يدري أنه قتلهم.

فهل هو طفل معنف أم بالغ مجنون؟ وإذا كان المسلسل يترك الباب مفتوحاً أمام التأويلات المختلفة، فلماذا يلح على تكرار مشاهد الأم، وهي تقتل الأب، علماً بأن هذا لم يحدث في الحقيقة؟

النقطة الأخيرة متعلقة بالنهاية الأميركية مئة بالمائة، فالبطل يواجه غريمه ضابط الشرطة وجهاً لوجه، ومسدساً لمسدس، وينال السفاح أقصى عقاب ممكن بجعله يقتل أعز إنسان لديه في الحياة.

“سفاح الجيزة” عمل جيد جداً، كان يحتاج فحسب إلى مزيد من “المحلية” والأصالة في الطرح.

إلى الأعلى